"البطة" تسمية محلية لسيارات تويوتا كراون من موديلات 1994 – 2002، استخدمت خلال حقبة الحرب الطائفية التي شهدها العراق (2004 - 2008)، والتي اتهم فيها سياسيون سنة، ميليشيا المهدي التابعة للتيار الصدري بخطف وقتل أبناء المكوّن السني في العراق، في حين قال قياديون في التيار الصدري إن عناصر التيار قضوا على الطائفية والإرهاب بوسائلهم، من بينها استخدام سيارات "البطة". بالتأكيد أنها صفحات من الرعب في تلك السنوات الى جانب وجود التنظيمات الارهابية التي ترعرعت في المناطق الجغروسنية, تلك هي افرازات نظام المحاصصة الطائفية والاثنية الذي عبث في استقرار البلاد وامنها المجتمعي والذي أسس له الأحتلال الامريكي البغيض لذلك, مما خلق خندقة جغروطائفية وأثنية في عموم العراق, والتي لازال العراق يحصد بفعل ذلك مزيدا من الفوضى واللااستقرار, وكان حصادها المزيد من التدهور الامني والفساد الاداري والمالي وتدهور مكانة الدولة العراقية لتفسح المجال لنشوء الدولة العميقة ذات الباع في الشأن العراقي وعدم استقراره, بل اصبحت صاحبة القرار في العبث في الامن والسيادة الوطنية.
أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة, أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس والفوضى المجتمعية.
كان استعراض جزء من سرايا السلام التابعة للتيار الصدري في يوم الأثنين المصادف 2021ـ02ـ08 لم يكن مفاجئة قطعا, حيث استعراض العضلات لمختلف القوى المسلحة جاريا على قدم وساق وفي مختلف المنعطفات والمناسبات السياسية, لطالما ان لغة القوة والسلاح هي البديل عن لغة الحوار. وخاصة ما يجري داخل القوى الشيعية حيث تشظيها المستمر على خلفية تشبثها بحيازة منصب رئيس الوزراء الذي يمتلك الصلاحيات الواسعة بما فيها القائد العام للقوات المسلحة وتشكيل الحكومة وتقرير سياستها الداخلية والخارجية وغيرها من الامتيازات ذات الصلة بأستقرار البلاد وأمنه وسيادته.
لم يكن استعراض التيار الصدري لبعض من قواه المسلحة نشاز عن مما يجري في البلاد سواء انه كان مباشرا في التعبير عن طموحاته وفرض ارادته انطلاقا من قدراته في التعبئة الحشدية لجمهوره والتي صاغها على شكل طموحات معلنة في رغبته في الحصول على 100 مقعد برلماني في الانتخابات البرلمانية القادمة التي ستجري في الشهر العاشر, ورغبته في تسلم رئاسة الوزراء, مادام الأمر محصورا في الطائفة الشيعية بتسمية رئيس الوزراء, فلماذا لا تسنح الفرصة للتيار الصدري بقيادة البلاد اسوة بمن سبقوه وهو من يدعي التعبئة المليونية عند الشدائد, فالمظلة المحصصاتية المثقوبة هي من يدفع القوى الشيعية للصراع المميت فيما بينها للأستحواذ على رئاسة السلطة التنفيذية وتركيبتها, حيث لا يستطيع الآخرون تقرير ذلك رغم عدم دستورية ذلك, حيث لا يوجد نص محصصاتي بتقسيم السلطات التنفيذية والتشريعية والرئاسية وحتى القضائية طبعا ولكنها من اسوء العادات التي تحولت الى عرف لا يمكن مغادرته, وان الذين يتحدثون عن عقد سياسي عراقي جديد والتأسيس لعقد اجتماعي سياسي متصالح مع الذات والمجتمع هم اطراف في المشكل العراقي المستعصي, حتى اصبح الحديث عن ذلك سخافة وتصريف اعلامي, فجميع الناطقون بها هم اطراف مريضة في نظام منهار.
التيار الصدري بأستعراضه العسكري الذي أطره بمخاوف أمنية للنيل من العتبات والرموز الدينية المختلفة فهو يتحدى فيه قوى شيعية سياسية متنافسة معه ورافضة له اصلا والتي يجسدها قطب المالكي, حيث اعلن علانية بعدم السماح للتيار الصدري بقيادة المشهد السياسي, والخلاف هنا ليست خلاف حول ما يعانيه شعبنا من فقر وفاقة وفساد او خلاف في برامج المعالجة لانتشال العراق من المستنقع الذي فيه, من ازمة اقتصادية واجتماعية وصحية, بل الخلاف على من يتزعم المشهد من الطائفة الشيعوسياسية والغارقة في الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام وتوقف المشاريع التنموية, في مجتمع يصل في عدد السكان تحت خط الفقر اكثر من 12 مليون نسمة, انه صراع على السلطة السياسية وليست صراع على برامج اقتصادية اجتماعية لأنقاذ البلاد, حديثي هذا ليست تزكية لفساد الطبقة السنية السياسي, فمن يسرق مخصصات اصلاح مناطقه فهو كافر ظالم ومجرم.
لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية, فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها, أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.
نعم يستطيع التيار الصدري حصاد اكثر من 100 مقعد برلماني, فهو يستنفر الخطاب الشعبوي الذي يؤطره الحرص على العراق وشدة التركيز على العراقوية المفتعلة وعلى استقلال القرار العراقي وعدم التدخل في شؤونه الداخلية لأستهواء مزاج الشارع العراقي الذي تعب ويأس من مختلف التحالفات, فالعزف على الانفعالات المؤقتة قد يؤدي الى مكاسب مؤقتة ذات طابع انفعالي مؤقت وبالتالي الانجرار وراء القطيع الانتخابي يشكل اكثر المخاطر ايذاء للديمقراطية.
ومن التجربة الماضية وعلى خلفية هذه التعبئة المشوهة اندفعت شرائح واسعة من مجتمعنا في البداية إلى الارتماء في أحضان الحركات الأسلاموية على خلفية فهم محدود لإزالة أثار الفقر ومسبباته في تصور خاطئ مفاده إن جرة قلم سوف تنقلهم من فقر مدقع إلى غنى لا حدود له, في ظروف سياسات انفتاح غير مدروسة وعبثية صوب الانتقال إلى اقتصاديات السوق, في وقت توقفت فيه الدولة عن أداء دورها التنموي في بلد غني كالعراق, وتتسع دائرة الظلم الاجتماعي والفساد, ويبدأ الفقر بالضرب بشدة في ما تبقى من صلابة التنظيم الاجتماعي بما فيه العائلة ليفضي إلى تصدع اجتماعي وترهل سياسي مخيف فيخيم على المجتمع شعور طاغ بالاغتراب وفقدان المعنى والمصداقية مع انعدام العدالة والتخلص من كل تخطيط ليقع المجتمع فريسة ضروب الفوضى وارتفاع مخيف لنسبة البطالة وسط غنى هو الأخر مخيف وفاحش, وتتعمد القوى السياسية لتسريع الانتقال إلى الرأسمالية المشوهة والوحشية لتحقيق مكاسب خاصة عبر الوكالات والسماسرة والفساد بكل أنواعه, ونفس هذه القوى تندفع إلى تسويات سياسية غير عادلة يسودها منطق الانهزامية الوطنية في ظروف يبدوا فيها محيط العراق الخارجي أكثر شراسة وعنف في التدخل في شئونه وارتهانه وأضعاف وحدته الداخلية.
وبالتالي فأن التيار الصدري بما يحمله من شرائح اجتماعية متنوعة من فقراء ومتوسطي الدخول بل ومن الاغنياء وملاكي العقارات وغيرهم قد يلعب دورا تمويهيا لجمهوره من خلال دغدغة المشاعر في الوعود لمعالجة الفقر والانتشال من البؤس خارج اطار الوعي الحقيقي للمسببات, ومن خلال تشبثه بمنصب رئيس الوزراء القادم بعيدا عن المخاطر الناتجة من نظام المحاصصة سيئ السمعة, فالمهم في ذلك ليست الفقر لذاته بل الوعي به.
تواصل الكتل الشيعية بتشظيها المتواصل كما هي الكتل السنية والكردية, وقد تكن الاخيرة اقل استنادا الى المزاج القومي والطموح نحو الاستقلال, ولكن الخلاص من نظام المحاصصة هو الحل في عراق آمن يضمن الأمن والتنمية للعراق والسلام لكردستان, ومن هنا فلا يسعد شعبنا الحصول على عدد المقاعد لكتل طائفية بل الخلاص من نظام المحاصصة الى نظام وطني جامع للتنوع العراقي بعيدا عن استئثار الطائفة والعرق.