في زيارة تاريخية لبابا الفاتيكان الى العراق استغرقت اربعة ايام أقل ما يقال عنها ومن خلال تصريحات البابا فرنسيس أنها صادقت رسميا على الخراب والدمار الذي حل بالعراق, وكانت اشارته السريعة في لقاءاته وخطبه الرسمية مع المسؤولين العراقيين وكذلك خطاباته في الكنائس الى الفساد والسلاح المنفلت والأقتتال الداخلي وانعدام الأمن والتهجير القسري الى جانب الفقر وانعدام الحياة الحرة الكريمة, الى جانب مواساته الخاصة لمسيحيي العراق ومحنتهم الانسانية في التهجير ومصادرة الممتلكات والتغير الديموغرافي المذهبي والديني الذي تعرض له العراق, فالمسيحين كمكون عراقي تعرض للتهميش بعد السقوط, وحيث الأحصائيات التي تشير الى وجود اكثر من مليون ونصف مسيحي قبل سقوط الدكتاتورية وقد تبقى منهم اليوم بحدود 250 ألف فقط, طبعا الى جانب الأضطهاد الذي لحق بالمكونات الأخرى جراء الحروب الطائفية والاثنية واحتلال داعش وما قام به من سبي وتنكيل وقتل واغتصاب للمكونات الأخرى وخاصة الأيزيدية, واليوم نحن نتحدث عن غبن كل المكونات دون استثناء.
زيارة البابا كانت ناجحة بأمتياز من حيث الحفاوة والاعداد لها وتنفيذها والاستقبال الشعبي الهادر لها من كل المكونات العراقية دون استثناء, الى جانب الرسالة التي اوصلها البابا للشعب العراقي, ولكن بالتأكيد فالحكومات الغارقة في الفساد وجدت ضالتها في متنفس سريع في زيارة البابا للعراق وأرادت ان تترك انطباعا مزيفا ان ما يجري في العراق برد وسلام ولا يوجد هناك ما يعكر صفو المواطن العراقي, من انعدام الخدمات والأمن وضيق فسحة العيش, وكانت اجراءات الحكومة السريعة في التهيئة للزيارة, من تبليط للشوارع وزرع للملصقات والصور وتعليق الشعارات وتهيئة مختلف الفرق الفنية والفلكلورية للتهيئة لأستقبال البابا أثار تعجب وجنون المواطن العراقي المحروم وقد انعكست في تساؤلات عديدة ابرزها لماذا لا تفعل الحكومة ذلك في سياقات طبيعية يومية استجابة لحاجات المواطن الماسة للكهرباء والخدمات, بالتأكيد ورغم انعكاساته الايجابية على الضيف ولكنه كان نفاقا وتحايلا حكومي وجزء من سلوكيات الفساد المستشري في الدولة, وكانوا يعملون ذلك في الحملات الانتخابية لخداع المواطن العراقي, وكان لتعبئة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والدفاعية دورا كبيرا وفاعلا في توفير الظروف الآمنة لزيارة البابا, فكيف لا يمكنهم العثور على قتلة المتظاهرين في انتفاضة تشرين وقد بلغ عددهم اكثر من 700 شهيد الى جانب آلاف الجرحى والمعوقين.
اذا كانت زيارة البابا بالنسبة للحكومة العراقية هي محاولة لفك طوق العزلة الدولية عن العراق من خلال توفير اجواء مناسبة لزيارته فأن البابا لم يمنح صك الغفران للحكومات العراقية وكانت خطاباته توبيخية للحكومات ولكنها بالتأكيد تستند الى مبدأ اللياقة والاخلاق الدبلوماسية لضيف حل بالعراق وليست مهمته التشخيص للحالة العراقية عبر الاشارة الى رموز العملية السياسية الفاشلة المحاصصاتية, وفي اطار تجنب الحساسيات المفرطة للتدخل في الشأن العراقي.
وعلى المستوى الجماهيري فكان صدى تأثيرات البابا فرنسيس واضحة وعميقة في الشارع العراقي, فقد رحبت به جميع الاطياف والملل والمذاهب, وهنا يلعب الوعي وتفاوتاته دورا كبيرا في فهم الزيارة, فقد رأى البعض انها فرصة الخلاص من نظام المحاصصة دون وعي كافي الى مجريات الصراع الطبقي الدائر في المجتمع العراقي بين فئات المحرومين والفاسدين, وبالتالي لا توجد وصفة سحرية من البابا لحل المشكل العراقي, ورأى البعض الآخر ان البابا رفد الشارع العراقي بطاقة سيكولوجية روحية هائلة عبر ايصال صوت العراقيين الى المجتمع الدولي ونعتقد في ذلك فأن صوت البابا قد فاق صوت الأمم المتحدة في التعريف بمعاناة العراقيين من الجور وظلم النظام الطائفي والأثني, وخاصة عندما تختلط المشاعر الدينية بالسياسسة في المحنة فأنها تضفي هالة وقدسية للخلاص بعيدا عن الطرائق المتبعة وماهيتها والتي قد لا نتفق مع مداخلها في العلاج, اي المساهمة في تحريض الغرائز الجمعية الأولى ذات الطابع الميتافيزيقي واحداث نوع من الصدمة في استيعاب المشكل العراقي.
كان لقاء البابا فرنسيس بالسيد علي السيستاني ليست لقاء شكليا لتتمة مراسيم زيارته أو لقاء بمقلد الطائفة الشيعية" فهناك اكثر من مقلد ومرجع لها" ولكن لقائه بالسيد السيستاني هو لقاء برجل مفصلي في العملية السياسية بعد 2003 فقد ساهم السيستاني ورجالاته بوضع اسس الدستور العراقي كما لعبت المرجعية في الأطوار الاولى من العملية السياسية على تشجيع الناس في انتخاب الاحزاب الاسلامية وحتى عبر فتاوى خاصة, ووقفت لاحقا الى جانب منتفضي تشرين 2019 وشددت على تنفيذ مطالب المحتجين وساهمت بأزاحة عادل عبد المهدي رئيس الوزراء السابق والذي جصلت في زمنه مجازر دموية ضد المتظاهرين, كما سبق ذلك فتوى الجهاد الكفائي للخلاص من داعش, الى جانب ذلك ان اللقاء به ضمنا يعني هو لقاء بمقلد الكتلة السياسة الشيعية التي تقود الحكم والمسؤولة عن أمن البلاد ومستقبله واستقراره وهي نفسها التي عاثت في الارض فسادا وسرقة للمال العام وقادت الحكم الى المجهول خلال ثمانية عشر عاما, فهو لقاء خاص بأمتياز وللتحذير بما هو قادم ودعوى بابوية ضمنية للسيد السيستاني لأستخدام صلاحياته الواسعة في التأثير على مستقبل البلاد السياسي.
بابا الفاتيكان لم يعطينا خارطة طريق لأنقاذ العراق "فتلك ليست مهمته " بل منحنا طاقة للعمل والتفاؤول وتدارك المخاطر المحدقة في البلاد, ونحن نترجمها الى موضوعات فرعية تضمن سلامة العراق باعتباره حاضنة للجميع:
أولاـ الأمن السياسي ويتضمن حماية الكيان السياسي للدولة العراقية كدولة ديمقراطية حرة وذات سيادة، وبما يكفل ديمقراطية الحياة السياسية العراقية في التعددية والانتخابات والعمل والمعارضة السلمية، بعيدا عن الإرهاب السياسي والاستئثار بالسلطة السياسية واستخدامها لتكريس حالات مشوه من الممارسات ألا ديمقراطية لنيل من ا الكيانات أو المعارضة السياسية السلمية.
ثانياـ الأمن الاقتصادي ويعني حماية اقتصاد الدولة العراقية ومواردها وخططها من الفساد والنهب والتزوير وسوء استخدام الموارد المالية، ويشمل ذلك كل من اقتصاد مؤسسات الدولة واقتصاد الأفراد والشركات.
ثالثاـ الأمن القانوني ويضمن حماية الحقوق الإنسانية والوطنية للمواطن العراقي، وبما يكفل تأدية واجباته في أطار منظومة عادلة وواضحة ومتوازنة من الحقوق والواجبات، ويشمل ذلك تأمين قضاء عادل غير متحيز، يحمي الجميع بغض النظر عن الحزب أو الطائفة أو القومية التي ينتمي أليها الفرد.
رابعاـ الأمن الاجتماعي ويشمل كافة الإجراءات التي تضمن وحدة المجتمع العراقي بأطيافه المختلفة من طوائف وأديان ومذاهب وأقليات قومية وعرقية، وبما يؤدي إلى تماسكه واندماج أفراده في الولاء إلى العراق كوطن للجميع، ويشمل ذلك أيضا الأمن الوقائي من التخريب والجريمة والإرهاب والترويع والتهديد بمختلف مظاهره.
خامساـ الأمن القيمي ويتضمن الحفاظ على منظومات المجتمع العقائدية والقيمية والثقافية بكل تنوعاتها الايجابية في أطار مناخ من الانفتاح والتناغم والتواصل مع المجتمعات والحضارة الإنسانية ومعطياتها الايجابية، ويأتي هنا دور الأعلام الحيادي والثقافة المبدعة في تكريس ذلك.
سادساـ الأمن الصحي ويقصد به حماية المواطن وسلامته من الأمراض والأوبئة وكل ما يهدد سلامته، ويأتي ذلك عبر خطط ملموسة لتطوير قطاع الصحة لانتشاله من حالة التدهور المستمر في ظل جائحة كورونا التي استنزفت كل الأمكانيات الى جانب الفساد.
سابعاـ الأمن البيئي ويضمن الحماية من نتائج التلوث الطبيعي والصناعي الذي لحق في البيئة جراء الحروب المتواصلة واستخدام مختلف أنواع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة والتي ألحقت دمارا بالبيئة الطبيعية، مما أثر سلبا على صحة الإنسان وبيئته.
لا نتفائل كثيرا فالساحة العراقية تعج بالكثير من المتغيرات الخطيرة والمفاجئة في ظل صراع العراق مع القوى الاقليمية والداخلية المليشياوية, وبالتالي يقف العراق على اعتاب محاذير ومخاطر جمة, منها العبث في الأسس الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة, وفوضى السلاح والمليشيات والعصابات المسلحة وعدم وجود قانون انتخابات عادل وكذلك قانون للأحزاب يمنع المليشيات من العملية السياسية والمشاركة فيها وعدم اقرار قانون المحكمة الاتحادية وفوضى مجتمعية واحتجاجات لا ترتقي الى مستوى تنظيمي يقارع الطغمة الفاسدة. فالبابا فرنسيس ليست عصى سحرية ويبقى الشأن عراقيا.