ليست من السهل الحديث عن العدالة في توزيع الموارد المالية والمتمثلة في العائدات النفطية اولا واخيرا في ظل نظام ريعي سعى منذ سقوط الدكتاتورية في عام 2003 الى التعامل مع السلطة وأرث الدولة كغنائم يجري تقاسمها دوريا سواء عبر الانتخابات البرلمانية التي تعيد انتاج القوى المتغانمة للسلطة او عبر الميزانيات السنوية التي يعول عليها العراق وشعبه سنويا ولكنه يفاجئ كالعادة بصراع شرس مع كل اقرار للميزانية, حيث الصراع على اقتسام الموارد النفطية وتوزيع الحصص جغروا مذهبيا واثنيا في اطار من المساومات غير المبدئية للحصول على اكثر قدر ممكن من المغانم في ظل بلد غاب فيه الحرص على وحدة البلاد ومكوناته الأثنو دينية والمذهبية, حيث مبدأ الانتفاع في اللحظة الراهنة من الموارد واستنزاف قدرات الدولة والعبث في مستقبل القادم من الأيام, أو كما يقال: " أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".
نظام المحاصصة الأثنية والطائفية ومنذ عام 2003 لم يأتي بجديد أيجابي يسهم بتغير العراق من حال الى حال افضل كما لم يعمل على ازالة ارث الدكتاتورية البغيض بل وجدت فيه مناسبة وبيئة حاضنة لسياستها التي تعيد انتاج الدكتاتورية ولكن برؤوس متعددة لدكتاتوريات تتصارع حول اقتسام العراق وموارده وتفتقد الى المشروع الوطني الجامع والحافظ لسيادة العراق بأعتباره حاضنة ومظلة للجميع, ومن هنا يشتد الخلاف حول الصيرورة التي تجري بها ادارة موارد البلاد كجزء من الغنائم الواجبة التوزيع وفقا لموازين القوى السياسية وبعيدا عن مصلحة العراق, فالجميع يغني على ليلاه.
وما يعبر عن حجم الأزمة المستعصية في صراع المتحاصصين هو استمرار العراق لعدة اشهر بدون موازنة للعام 2021 وقد انتهى ربعه الأول, وحتى العالم الخارجي" وهي حالة نادرة" يتابع بعناية مسارات اقرار الميزانية العراقية, فعادة كل دول العالم تقر ميزانياتها بهدوء ولم يعلم بها أحد من الخارج سوى اخبار عابره, اما ان تهنئ امريكا العراق على اقرار الميزانية وغيرها من الدول الى جانب اهتمام الصحافة الاقليمية والعالمية فهو مؤشر لتفهم العالم الخارجي لعمق الأزمة السياسية لتي يعاني منها العراق والصراعات السياسية الاثنية والطائفية التي اعتاد عليها المشهد السياسي العراقي منذ سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري وانهيار الدولة العراقية ومؤسساتها على يد المحتل الامريكي الذي أسس لنظام اثني طائفي تتصارع فيه المكونات الأثنية السياسية والطائفية على الموارد المالية ولا تتصارع على ضرورات وحدة العراق بأعتباره أولوية وشرط مسبق للسلم والأمن والحفاظ على المال العام.
لا يمكن الحديث عن نظام يستند الى النفط كمورد اساسي ووحيد او على شاكلة" يبيع ليأكل فقط " ان يمتلك رؤيا للمستقبل, فكل قواه السياسية تتحدث عن صفقات للموارد وليست صفقات لاعادة البناء, تلك هي ضالة القوى السياسية الطائفية والاثنية المتشبثة بالهويات الفرعية, فالموازنات السابقة ومنذ 2003 لم ترى النور منها لا بمشاريع انتاجية واستثمارية ولا فرص عمل ولا اعادة بناء البنية التحتية التي دمرها الاحتلال والصراعات الطائفية الاثنية, بل كانت كانت ملغومة بالفساد واهدار المال العام والمشاريع الوهمية, حتى بلغ ما خسره العراق ما يقارب 1400 مليار دولار في مجمل وارداته النفطية لتلك الفترة, والقوى السياسية هي نفسها التي قادت المشهد بعد السقوط وتقوده الآن وتتصارع على الموارد والميزانية السنوية.
وحسب ما تم التصريح به وافق برلمان العراق الأربعاء، على ميزانية عام 2021 التي يبلغ حجمها 130 تريليون دينار عراقي (89.65 مليار دولار)، في وقت تعاني به البلاد أزمة اقتصادية ومالية بسبب تدني أسعار النفط. وقال مشرعون إنه من المتوقع أن يبلغ عجز الميزانية 28.7 تريليون دينار (19.79 مليار دولار). وتفيد وثائق ومشرعون أن الميزانية موضوعة على أساس سعر نفطي بلغ 45 دولارا للبرميل، وصادرات متوقعة قدرها 3.25 مليون برميل يوميا، منها 250 ألف برميل يوميا من إقليم كردستان العراق. ويعتمد العراق على النفط في تمويل 97 بالمئة من ميزانيته، وأدى التزامه باتفاق أوبك لخفض إنتاج النفط إلى تقليص الموارد المالية لحكومة تكافح من أجل معالجة تداعيات سنوات الحرب والفساد المستشري.
ورغم الفرح الشكلي والذي ابتهجت به القوى السياسية المتحاصصة حيث حصولها على ما تريد من صفقات مالية, والتي جرت المصادقة عليها على طريقة خذ ما تريد واعطني ما اريد, وكذلك ما افرزته عمليات التصويت على الموازنة من صفقات انتخابية مبطنة قادمة قد تبدو ملامحها واضحة لاحقا في شخص رئيس الوزراء القادم ورئيس الجمهورية المحصصاتي, لكن الشارع العراقي قد استوعب اللعبة بوضوح اكبر هذه المرة ولعله يبلور ذلك في صيرورة وعي قادم لأعادة اصطفاف القوى السياسية وتفويت الفرصة على قوى المحاصصة المتخاذلة امام مصلحة البلاد وامنه واستقراره.
الذين تاكتفوا لتمرير الميزانية بهدف الحصول على مكاسب آنية فرحوا لحالهم والذين غضبوا من القوى الاخرى او اضافوا تعديلات على فقرات الميزانية لدوافع مختلفة فقد عرفهم الشعب العراقي خلال 18 عشر عاما بفسادهم وبالتالي فأن الثقة الشعبية بجميع الاطراف المتحاصصة هي ثقة حذرة ان لم نقل معدومة, فالحديث عن الميزانية هو حديث عن صراع مستميت بين قوى السلطة المحاصصاتية وعلى كيفية اغتنام موارد البلاد, فلا تحسن قادم في الظروف العامة الخدمية وتحسين ظروف العيش حيث ان مستلزمات ذلك تكمن من خلال تجربة الحكم ما بعد 2003 في عدم محاربة الفساد ووضع حد له, وبالتالي استنزفت موارد البلاد وميزانياته وسرق قوت الشعب ومستقبله.
يفترض ان فرح السيد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ومباركته في المصادقة على الميزانية ان يكون مشروعا, فليست المباركة في ضخ الاموال المليارية لقوى المحاصصة مفرحا بل انه سيكون اشد حزنا عندما لا يقترن بمحاربة الفساد المالي والاداري ونهب المال العام الذي لم يستطيع السيد الكاظمي محاربته رغم وعوده ولجانه المختلفة لمحاربة الفساد لكنه لم يستطيع بل وخائف في محاربته, في دليل قاطع ان قوى الفساد اقوى من قوى الدولة, وبالتالي فأن المتحاصصين بعد اقرار الموازنة هم بأنتظار ضخ الاموال للأفساد فيها وسرقتها وحجب اي بارقة أمل في انتشال العراق من الوحل الذي يتمرغ فيه, والحديث عن الاستثمارات وفرص العمل وتحسين مستوى الحياة هو حديث مشكوك فيه لتصريف ازمة الحكم والنظام, وينتظر العراقيون مزيدا من شد الأحزم على البطون في ظل سياسات انخفاض سعر الدينار بغياب مظلة الدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة والمحرومة وغياب فرص العمل وارتفاع الاسعار الجنوني الذي سيؤذي منخفضي الدخول ويعرضهم الى مختلف الانتهاكات.
خيارات شعبنا هي خيارات استنفار للمساهمة في اعادة اصطفاف القوى السياسية عبر المساهمة في الانتخابات القادمة على نطاق واسع لأستبدال منظومة الحكم الفاسدة بمنظومة اخرى بديلة, رغم ان الحديث عن ذلك ليست سهلا فمنظومة الفساد تمتلك امكانيات كبيرة للعبث في مسار الانتخابات وتزويرها او تهديد المواطن وتشويه خياراته الانتخابية, ولكن يفترض ان بصمات انتفاضة تشرين تكون حاضرة بوضوح في المعادلة السياسية عبر تسلحها بضرورات الوعي البديل بعيدا عن الصراعات الثانوية التي قد تعرقل بل وتشوه انجازات تشرين, وعلى الكاظمي ان يتحلى بشجاعة اكبر وجرئة في ان يحمي مسار التحولات نحو الأفضل وإلا سيلعنه التاريخ والعراقيين كما لعنوا سابقه, وعلى الأقل ان يكون امينا لما ادعى به وليست مناورا على حساب دماء الشعب.
لا توجد معطيات ان اسقاط النظام عبر انتفاضة مسلحة هي البديل حيث ان موازين القوى غير موجودة كبديل ديمقراطي, بل هو نذير بمزيد من الانقسامات والتشظيات والحروب الداخلية والمقابر الجماعية, ولكن العالم كله مع انتفاضة تشرين السلمية لأزاحة القوى الفاسدة والميليشياوية المدججة بالسلاح, وبالتالي فأن عنصر التنظيم لقوى تشرين سيلعب دورا كبيرا في التأسيس لمرحلة التغير الجذري لأزالة القوى الفاسدة عن المشهد السياسي, وهي مقدمات للحفاظ على موارد العراق المالية والبشرية وانطلاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد واعادة استنهاض العنصر البشري في العراق على اسس الحق والعدل وتكافؤ الفرص.