تناول العديد من التحليلات السريعة بعد سويعات من فوز المرشح الجمهوري الأمريكي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عوامل شتى آنية لهذا الفوز، معظمها تتعلق بما جرى خلال الحملات الانتخابية لكلا المرشحين المتنافسين، ترامب ومرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس.
بيد أن ثمة عاملاً رئيسياً لعب دوراً محورياً في إنقاذ ترامب من الفشل الانتخابي لعله غاب عن معظم تلك التحليلات المتسرعة، ويتمثل هذا العامل بدور فئة واسعة من الأوليغارشية المالية التي دخلت على الخط بكل ثقلها ونفوذها المالي والاقتصادي لترجيح كفته للفوز منذ وقت مبكر قبل الانتخابات، وذلك باعتباره خير من يمثل مصالحها، وعلى رأسهم إيلون ماسك أغنى رجل في العالم، وهو مالك منصة "إكس"، أهم منصة لحرية التعبير في الفضاء العالمي التي لم تفتقر اليوم حتى للحد الأدنى الذي كانت تتمتع به قبل أن يشتري ماسك منصة تويتر، فقد أضحت المنصة التي أطلقها عليها ماسك "X " تمارس حجب الكثير من التغريدات التي تتعارض مع مصالحه أو التي تفضح جرائم الصهيونية بحجة معاداتها للسامية. كما يملك ماسك شركة خاصة لإنتاج الصواريخ الفضائية، وهو أيضاً رئيس إدارة شركة "تسلا". وحسب مقال للباحث باتريك مارتن على موقع SW SW فقد قُدرت ثروته أوائل العام الجاري ب 188 مليار دولار، كما تمتع ترامب بدعم الملياردير جيف بيزوس وقُدّرت ثروته ب 192مليار دولار، وهو مالك شركة أمازون وصحيفة "واشنطن بوست" العريقة وهي من أكثر الصحف تأثيراً في الرأي العام، لكنها عملياً التزمت الصمت المريب المخاتل لصالح ترامب، وقد أبدى ترامب نفسه ارتياحه لهذا الصمت خلال حملته.
كما حظي بدعم الملياردير باتريك سون شيونغ، قطب الأعمال في مجال التكنولوجيا، الذي قدم دعماً له بشكل خفي غير معلن أيضاً. ويشير الباحث مارتن إلى أن ثمانية من أكبر مالكي الثروات الفاحشة يعملون في مجال تكنولوجيا المعلومات وفروعها، ومن بينهم أغنى أربعة أشخاص في العالم، هم كل من جيف بيزوس، وإيلون ماسك، ومارك زوكربيرغ (ثروته 169 مليار دولار) ولاري إيلسون (ثروته 154 مليار دولار).
وإذا كان "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فهذا ما ينطبق على سنوات الجائحة، ففي الوقت الذي تزعزع فيه اقتصادات العشرات من دول العالم وتدهورت الاحوال المعيشية لشعوبها، بل قُدر عدد ضحايا هذا الوباء في بلد المليارديرية الأميركية بأكثر من مليون، حسب CNN العربية، وأكثرهم لم يجدوا علاجاً أو مكاناً في المستشفيات التي تغص بضحايا الوباء، فإن ثروات أولئك المليارديرية ذاتهم تضاعفت في سني الجائحة بنسبة 600 بالمائة. وقد ترجم جوزيف ككشور، زعيم حزب "المساواة والاشتراكية" الأميركي تلك الأرقام ترجمة تعكس انعدام العدالة الاجتماعية انعداماً حاداً في الولايات المتحدة نفسها، سيما في مجال الخدمات الأساسية للمواطنين، فإجمالي ما جمعه أولئك المليارديرية والبالغ أكثر من خمسة تريليون دولار، تعادل ثلاثة أضعاف ديون الطلبة في بلدهم، كما يكفي رقم ما جمعوه 150 ضعفاً للقضاء على الجوع في العالم.
وبهذا يتضح أن الفئة التي دعمت ترامب من الأوليغارشية هي الفئة الأكثر أنانية وفساداً في هذه الطبقة، ذلك أنها بحسها الطبقي الأناني أدركت بأن ترامب، مهما كان غير مؤهل لقيادة البلاد، ومهما كان رصيده من الفساد والجرائم المتنوعة التي تلاحقه، وبعضها على خلفية جرائم جنسية، فإنه خير من يمثل مصالحها في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة التي تمر بها الولايات المتحدة والعالم بأسره. وتُعد الولايات المتحدة أكبر الدول الرأسمالية في العالم التي يضخ فيها أساطين المال أموالاً هائلة في الحملات الانتخابية الأميركية المتعاقبة لمصالحهم الخاصة الضيقة، وأغلب هؤلاء كانوا ممن ازداد تهربهم الضريبي بنسبة 38 بالمائة، ناهيك عن خرقهم لقانون منع الاحتكار.
وبعض هذه الاتهامات-كما نعلم- كان المرشح الفائز ترامب نفسه يواجه تُهماً بسببها كالتهرب الضريبي، ولهذا السبب يتهافت الكثير من المليارديرية للحصول على مناصب حكومية بغرض التأثير من خلال النفوذ الذي توفره لهم هذه المناصب للحيلولة دون ملاحقاتهم رقابياً وقضائياً. وهذا ما حدث تماماً فقد أعلن ترامب مؤخراً عن مكافأة إليون ماسك على دعمه بتعيينه مسؤولاً لشؤون تخفيض الضرائب، وهذا ما تهافت من أجله الملياردير ترامب، سواء خلال حملته الانتخابية في عام 2016 التي فاز بها بالرئاسة أم خلال حملته الأخيرة التي توجته بالفوز أيضاً. والحال أن الأوليغارشية المالية تحس بفطرتها ووعيها الطبقي الاستغلالي الاناني بهشاشة وضعها في هذه اللحظات التاريخية التي تمر بها الولايات المتحدة حيث يدور على ساحة خريطتها العريضة بطولها وعرضهاً صراعاً طبقياً ضارياً غير مسبوق تاريخياً في شدته منذ تأسيس الدولة الاتحادية في عام 1776.وهذا الصراع أياً كانت عناوينه هو جوهر الانقسام الحالي الذي تشهده البلاد.
ولك أن تتخيل شكل هذه "الديمقراطية" التي لا يغيب عنها التكافؤ بين المتنافسين ترامب وهاريس فحسب، بل يتحكم بموجب مخرجات نظامها الديمقراطي والانتخابي المتقادم قلة قليلة من أكبر كبار نجوم الأوليغارشية المالية، حيث حضرت لتفويز ترامب منذ وقت مبكر قبل انطلاق حملته، وهذه الفئة من الأوليغارشية هي المتربعة الآن على قمة الهرم الاجتماعي الطبقي لتغليب مصالحها على حساب مصالح الأغلبية الساحقة من الشعب وهم بمئات الملايين، وجلهم من الطبقة الوسطى والعمال وذوي الدخل المحدود والمعدمين في قاع ذلك الهرم!